- محاضرات خارجية / ٠06 لقاء مع الشيخ الشعرواي - مصر
- /
- ٠1اللقاء الأول مع الشعراوي
لقاء طيب مبارك بين فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي داعية مصر الأول ، وبين الأستاذ محمد راتب النابلسي ، تم هذا اللقاء الكريم ، في دار الشيخ الشعراوي في القاهرة ( الهرم )، بتاريخ التاسع والعشرين من تشرين الأول عام ألف وتسعمئة وتسعين ، الساعة العاشرة والنصف ضحُى وبعد تبادل كلمات الترحيب والوُدّ جرى الحوار التالي :
وقد نشر هذا الحوار في مجلة " نهج الإسلام " . عدد / 43 / .
بسم الله الرحمن الرحيم
*الدين في الأصل نقل ... والعقل لفهم النقل ، ولا بد من أن يتفق صريح المعقول مع صحيح المنقول ؛ لأن القرآن كلام الله ، والكون خلقه ، والأحداث أفعاله ، والعقل ميزان خصَّ الإنسان به ، فإذا وَرَد النقل بما يخالف العقل واستحال التأويل فماذا نصنع ؟..
** نعتمد النقل ... لأن عقلنا لم يفهم حقائق الأشياء ؛ بدليل أننا كلَّ يوم نكتشف أشياء كنّا لا نعرفها قبل ذلك ... وما دمنا نكتشف أشياء جديدة في كون اللّه ، لم نكن نعرفها قبل ذلك ... إذاً العقل بذاته قاصر عن أن يدرك كل شيء ، فالعقل له الدور الأول في الإيمان ، لأنك لا تدخل على من تنقل عنه إلا بالعقل ، فالعقل يبحث في الكون فيرى من خلاله المكوِّن ، ويرى أتفه الأشياء ، وأعظمها ، قد استويا في إتقان الصُنع ودقته ، فينبغي أن أبحث بعقلي أولاً في هذا الكون ، الذي يعمل كل شيء فيه بنظام معجز ، ولا يَفْسُد إلا إذا تدخَّلت فيه يَدُ الإنسان من دون منهج المكوِّن ، فأيُّ شيء لا تتدخل فيه يد الإنسان ، يؤدي مهمته كما ينبغي ... فالفساد ينشأ من تدخل الإنسان بغير قانون خالق الإنسان... فالإنسان وُجِدَ في كّوْن أُعِدَّ إعداداً كاملاً ، وسُخِّرَ تسخيراً كليّاً ، ولم يَدَّعِ خلقَ هذا الكون أَحَد ، ثم يأتي رسولٌ من عند خالق هذا الكون يقول لي قضايا الكون التي شغلت عقلي هي كيت وكيت... فالإنسان يجب أن يهتزَّ شكراً وامتناناً لهذا الرسول الكريم ، الذي حلَّ للإنسان لُغْز الوجود وأصلَه ومصيرَه ، هذا اللُغز الذي شُغلت به عقول البشر عَبْر القرون والحِقَب . فلو كنتُ في سيارة أعبر بها الصحراء ، وتعطَّلت هذه السيارة ، حتى نَفَذ الزاد والشراب وأيقنت بالهلاك ، ثم أخَذَتْنِي سِنَةٌ من النوم بعدها استيقظتُ لأجد مائدة فيها أطايب الطعام والشراب ... ألا ينبغي قبل أن آكل أن أسأل مَن الذي أعدَّها وهيَّأها ؟!.
إن هذا الكون لم يَدَّعِ خَلْقَه أحد ، مع أن الناس تدَّعي ما ليس لها، حتى الملاحدة الذين يُنكرون وجود اللّه لم يدَّعوا هذا ... فالحق هو ما جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ونحن ينبغي أن نشكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على أن بيَّن لنا حقيقة الكون ، والحياة ، والإنسان ، تلك الحقيقة التي طالما شُغِلت بها العقول .
إذاً عقلي هو الأصل في معرفة اللّه ، وبعد أن أهتدي إلى اللّه بعقلي ، آخذ ممن اهتديت إليه عن طريق النقل ، ويصبح همّ المؤمن الأول ، التحقُّق من صحة النقل ، وهل هذا الأمر صدر عن اللّه أو لم يصدر ، وهذا مما توجبه عبودية الإنسان لخالقه ...
أما الصدام الذي قد يُتَوَهّم بين حقائق الدين ، وبين العلم الكوني...
فالدين لم بتدخل في العلم الكوني ، لأننا لم نختلف فيه ، بل إننا سنلتقي فيه حتماً ، فليس هناك كهرباء روسي وكهرباء أميركاني ، ولا كيمياء ألماني وكيمياء إنكليزي ، بل إننا لا نخجل أن نسرق سوابق بعضنا في العلم ، ولكن في الهوى والنظريات نحجبها عن بعضنا بعضاً . فربنا تَدخَّل في المجال الذي نختلف فيه ... الأهواء . ووضع نظاماً يمنع الأهواء من أن تُفسد الحياة . لذلك عالم الدين حينما يتدخل في علم المادة التجريبي نقول له : إنك أدخلت نفسك في لم يدخلك اللّه فيه ... والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " أنتم أعلم بأمور دنياكم "(2).
هذا العلم علم تجريبي ومعملي ، والمعمل لا يجامل ، والمادة لا تجامل ، وهذا ليس من عمل الدين ... الدين يدعوك إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض ؛ لإنك إن فعلت هذا سيعطيك هذا التأمل حقائق ...
﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون. ﴾
هذه الحقائق تحملك على الإيمان باللّه ، فالدين لا يتدخل إلا فيما تختلف فيه الأهواء ، ولكن ما تلتقي فيه الأهواء .. أنت حرّ .. ويا عالم الدين لا تتدخل فيما تلتقي فيه الأهواء ، ويا عالم الدنيا لا تتدخل فيما تختلف فيه الأهواء .
إذاً الذين يُريح عقلي من صراع الأهواء بعضها ببعض ، ويجعلني ألتقي مع الآخرين في المسائل المتفق عليها ، ولذلك نرقى ولا نختلف .
﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون﴾
فالحق جل وعلا الذي أبحث عنه بعقلي ، بمجرد ما انتهيت إليه بعقلي أُسلِّم له لأني لمّا آمنت بأنه إله ، وأنّه مأمون على ما شرع لي ، ينبغي أن أُسلِّم . فأنا أبحث عن الطبيب المناسب بعقلي، وحينما أهتدي إليه بعقلي أسلِّمه نفسي ولا أتدخَّل فيما يكتبه لي من أدوية وعلاجات ، لذلك العارفون باللّه أعطوا العقل مهمته فقالوا : العقل مطيَّة توصلك إلى حضرة السلطان ، ولكن لا يدخل معك عليه ...
المشكلة أننا نبحث عن العلل التعبديَّة !! هذه لماذا ؟ وتلك لِمَ ؟ لا يناقش في حكمة الأشياء إلا المادي .